لست أذكر المناسبة التي قال لنا فيها الأستاذ محمد فائق آخر وزير إعلام في عهد جمال عبد الناصر إن الرئيس طلبه على التليفون الموصول مع الرئاسة وهو في مكتبه، ولم يتوقع فائق أن تكون المكالمة الرئاسية خاصة بالمطربة عفاف راضي، كان الرئيس يستمع إلى الإذاعة وشده صوت المطربة الناشئة في ذلك الوقت، وحرص على أن يواصل الاستماع إليها حتى انتهت أغنيتها وذكر المذيع اسمها واسم الملحن وصاحب الكلمات، فاتصل من فوره بوزير الاعلام ليقول له إن صوتها جديد وحساس، يجمع بين قوة صوت فيروز، ورقة صوت نجاة الصغيرة، وطلب الاهتمام بالأصوات الجديدة مثلها.
تذكرت هذه القصة حين قرأت المقال الذي كتبه الكاتب اللبناني سمير عطا الله وقال فيه «إن الرئيس جمال عبد الناصر في عزِّ سطوته الجماهيرية خشي على التفوّق المصري الفني من صوت فيروز، فقال لمن حوله: هاتوا لنا فيروز مصرية على وجه السرعة، وقيل يومها إن عفاف راضي قُدِّمت على أنها فيروز مصر»، ويستدرك عطا الله فيقول: «لكن كما كانت هناك أم كلثوم واحدة لا تتكرّر في الأجيال، لا هي ولا منديلها ولا حضورها الكامل، كانت هناك أيضاً فيروز واحدة أشبه بالبحر لا يكرّر إلا نفسه».
يومها راجعت الأستاذ فائق حول ما جاء في المقال، فذكر لي القصة نفسها التي كان حكاها لنا من قبل، وقال إن الأمر لم يتطرق إلى المقارنة بين فيروز وعفاف راضي، بل أكد على أنه رأى في صوتها ما يذكره بعظمة صوت فيروز، وأن الأمر اقتصر على ضرورة الاهتمام بالأصوات المصرية الجديدة، وكانت عفاف راضي مثال على تلك الأصوات.
وحين تشرفت بالتعرف على المايسترو سليم سحاب كان لي معه حوارات ممتدة، وهو متحدث بارع، ومثقف كبير، وابن نكتة أيضًا، وقد كان لي شرف اجراء حوار صحفي موسع معه حين استقر به المقام في مصر، تناول الحوار تجربته الموسيقية الكبيرة، ولفتني يومها قوله إن فيروز بنت المدرسة المصرية.
فسألته التوضيح فقال إن الشخصية الفنية الحديثة لجميع الموسيقيين اللبنانيين تشكلت على الموسيقى المصرية، لم يكن هناك موسيقى محترفة غير المدرسة الموسيقية المصرية، ولم تكن هناك وسيلة إعلام تصل إلى أقطار الوطن العربي كله إلا الإذاعة المصرية ولم يكن هناك أفلام عربية غنائية أو غير غنائية غير الفيلم المصري.
ثم أردف قائلًا: وحتى المدرسة الموسيقية اللبنانية الحديثة التي ظهرت من الأربعينات مع حليم الرومي وفيلمون وهبي، ونيقولا المني، وخالد أبو النصر، وغيرهم، تبلورت في الخمسينات وانطلقت عربياً مع الأخوين رحباني وزكي ناصيف وعفيف رضوان وتوفيق الباشا وباعتراف هؤلاء جميعًا فإن هذه المدرسة هي الابن الشرعي للمدرسة الموسيقية المصرية.
ويذكرنا المايسترو سليم سحاب بأن التقسيم السياسي الذي فرض على البلاد العربية بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية لم يستطع أن يكرر نفسه بتقسيمات ثقافية موازية ولن ينكر أي شخص موضوعي أن مشكلات سياسية كبيرة طرأت في فترة الاستقلال بين الدول العربية، ولكن وحدة الوجدان في الثقافة العربية عموماً وفي الموسيقى خصوصاً ظلت حتى يومنا هذا تفرض نفسها في العمق متجاوزة كل الحواجز السياسية الطارئة.
وحكى لي المايسترو سحاب قصة جرت وقائعها في العاصمة الفرنسية باريس حيث كان يقوم مع فرقته الموسيقية برحلة فنية على رأس فرقة «بيروت للموسيقى العربية»، وحدث أنهم استقلوا حافلة لزيارة «قصر فرساي»، وكان أعضاء الفرقة يشغلون مقاعد القسم الخلفي من الحافلة، فجأة انطلقت إحدى منشدات الفرقة تغني «على بلد المحبوب وديني»، يقول: لمحنا امرأة شابة تقف قرب باب الحافلة ووجهها مليء بالانفعال وقبل أن تنزل التفتت إلينا، وكنا نظنها فرنسية، وصاحت بنبرة عالية مفعمة بالشجن والحنين والانفعال وبلهجة مغربية واضحة رافعة يديها إلى السماء وهي تقول: «ربنا ينصركم، ربنا ينصركم» .
دلالات الحادثة أعمق من أن نحللها على هوانا، فالأغنية من مصر (أم كلثوم ورياض السنباطي)، والمنشدون من لبنان، والمستمعة مغربية تعيش في الغربة، وفي باريس تحولت الأغنية إلى سلك كهربائي يحمل لغة وجدانية واحدة إلى المرأة المغربية، تطلق لديها ما يتجاوز بكثير مجرد النشوة الفنية فتحرك أعماق مشاعرها القومية والسياسية، وربما أشجانها الشخصية الخـاصـة وعواطفها الدينية.
وحين قلت له إن الموسيقى لغة عالمية يا مايسترو، قام من فوره إلى البيانو وعزف مقطع من «سيمفونية بيتهوفن الخامسة»، ثم عرَج على عزف جزء من لحن «أهل الهوى يا ليل» لزكريا أحمد، ثم قال لي: تلاحظ أنهما مكتوبان على المقام الموسيقي نفسه، فهل تجد أي شبه بين هذين العملين، لن تجد بالطبع، فاللحن الأول ذو جنسية ألمانية وانتماء ألماني محض، واللحن الثاني انتماؤه عربي، الذي يجمع بينهما فقط هي حروف الموسيقى السبعة.
حكاية الموسيقى لغة عالمية خطأ شائع كما يرى المايسترو سحاب، فالموسيقى عنده هي لغة قومية ذات حروف عالمية، ويستدل على ذلك بأن كل الناس يعرفون أن جميع لغات أوروبا ونصف لغات الشرق إلى جانب جميع لغات أمريكا الشمالية وبعض أمريكا الجنوبية تكتب كلها بالحروف اللاتينية، ولكنها في الأصل لغات قومية مائة في المائة، وإن كتبت بنفس الحروف، هكذا موسيقات الشعوب تتألف من الحروف الموسيقية نفسها (دو. ري. مي. فا. صول. لا. سي)، ولكنها تبقى اللغة القومية لكل شعب.
عن نفسي، ومن دون أي مواقف إقليمية ضيقة مثل التي يروج لها مقال سمير عطا الله أحببت عفاف راضي وعشقت صوتها، ولكني أعترف أن فيروز تبقى هي مطربتي المفضلة التي لا يسبقها عندي مطربة أخرى، حتى أم كلثوم نفسها، وتبقى فيروز عندي هي غذائي اليومي في كل وقت صباحًا كان أم مساءً، ويبقى أن الموسيقى العربية كلها تجمعنا ولا تفرقنا، وهي بحق لغتنا القومية العابرة للتقسيمات والانقسامات رغم كل هذا التشرذم البادي في مواقعنا ومواقفنا السياسية.